كان النبي صلى الله عليه وسلّم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر:
- إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ففي حديث عائشة قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلّم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر- يعني الأخير- شمّر وشد المئزر" رواه أحمد. ويحتمل أن يُراد بإحياء الليل إحياء غالبه، ويؤيده ما في صحيح مسلم عن عائشة، قالت: "ما أعلمه صلى الله عليه وسلّم قام ليلة حتى الصباح ".
- ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي، قال سفيان الثوري: أحب إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يطرق فاطمة وعليّا ليلاً فيقول لهما: "ألا تقومان فتصليان " رواه البخاري ومسلم.
- وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يوتر. وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" [طه 132].
- ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يشد المئزر. واختلفوا في تفسيره، فمنهم من قال: هو كناية عن شدة جدّه واجتهاده في العبادة، وهذا فيه نظر، والصحيح أن المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسره السلف والأئمة المتقدمون منهم سفيان الثوري، وورد تفسيره بأنه لم يأو إلى فراشه حتى ينسلخ رمضان. وفي حديث أنس: " وطوى فراشه، واعتزل النساء ". وقد قالت طائفة من السلف في تفسير قوله تعالى: "فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم" [البقرة: 187] : إنه طلب ليلة القدر. والمعنى في ذلك أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر؟ لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح، فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل، خصوصاً في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن هاهنا كان النبي (صلى الله عليه وسلّم) يصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءه ويتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
- ومنها تأخيره للفطور إلى السحر: روي عنه من حديث عائشة وأنس أنه لما كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً. ولفظ حديث عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شد المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحوراً " رواه ابن أبي عاصم،. وعن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلّم: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مُطعمٌ يطعمني وساقٍ يسقين " رواه البخاري،. وظاهر هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلّم كان يواصل الليل كله، وقد يكون صلى الله عليه وسلّم إنما فعل ذلك لأنه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر، ولم يكن ذلك مضعفاً له عن العمل، فإن الله كان يطعمه ويسقيه.
- ومنها اغتساله صلى الله عليه وسلّم بين العشائين، وقد تقدم من حديث عائشة: "واغتسل بين الأذانين " والمراد: أذان المغرب والعشاء، قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر. وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر. وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة، والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين.
- فتبين بهذا أنه يستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين، والتطيب بالغسل والطيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد. وكذلك يشرع أخذ الزينة بالثياب في سائر الصلوات، ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب؟ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئأ.
- ولا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه وطهرهما، فكيف وملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، وهو لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التقوى.
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقوى… تقلب عرياناً وإن كان كاسيا
- ومنها الاعتكاف، ففي "الصحيحين " عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى. وفي "صحيح البخاري " عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين ". وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه العشر التي تطلب فيها ليلة القدر، قطعاً لأشغاله، وتفريغاً لباله، وتخلّياً لمناجاة ربه وذكره ودعائه.
فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه، فما بقي له هم سوى الله وما يرضيه عنه. وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]